الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.الكلام على قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه}: يا مبارزا بالذنوب خذ حذرك وتوق عقابه بالتقى فقد أنذرك وخل الهوى فإنه كما ترى صيرك قبل أن يغضب الإله ويضيق حبسه {ويحذركم الله نفسه} اجتهد في تقوية يقينك قبل خسر موازينك وقم بتضرعك وخيفتك قبل نشر دواوينك وابذل قواك في ضعفك ولينك قبل أن يدنو العذاب فتجد مسه {ويحذركم الله نفسه} لما سمع المتيقظون هذا التحذير فتحوا أبواب القلوب لنزول الخوف فأحزن الأبدان وقلقل الأرواح فعاشت اليقظة بموت الهوى وارتفعت الغفلة بحلول الهيبة وانهزم الكسل بجيش الحذر فتهذبت الجوارح من الزلل والعزائم من الخلل فلا سكون للخائف ولا قرار للعارف كلما ذكر العارف تقصيره ندم على مصابه وإذا تصور مصيره حذر مما في كتابه وإذا خطر العتاب بفنائه فالموت من عتابه فهو رهين القلق بمجموع أسبابه كان داود عليه السلام إذا خرج يوم نياحته على ذنبه أقلع مجلسه عن ألوف قد ماتوا من الخوف عند ذكر ربه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بالآية في ورده فيبكي حتى يسقط ويبقى في البيت مريضًا يعاد وقرأ الحسن ليلة عند إفطاره {إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة} فبقي ثلاثة أيام لا يطعم حقيق بمن علم ما بين يديه وتيقن أن العمل يحصى عليه وأنه لابد من الرحيل.عمل لديه إلى موقف صعب يساق إليه يتجافى عن مضطجع البطالة بجنبيه قال حاتم الأصم من خلا قلبه من ذكر أخطار أربعة فهو مغتر فلا يأمن الشقاء الأول خطر يوم الميثاق حين قال الله تعالى هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ولا يعلم في أي الفريقين كان والثاني حين خلق في ظلمات ثلاث فنودي الملك بالشقاء والسعادة ولا يدري أمن الأشقياء هم أم من السعداء والثالث ذكر هول المطلع ولا يدري أيبشر برضا الله تعالى أو بسخطه والرابع يوم يصدر الناس أشتاتا ولا يدري أي الطريقين يسلك به فمحقوق لصاحب هذه الأخطار أن لا يفارق الحزن قلبه بكى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ليلة فأطال فسئل عن بكائه فقال ذكرت مصير القوم بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير ثم صرخ وغشي عليه.يا من قد وهى شبابه وامتلأ بالزلل كتابه أما بلغك أن الجلود إذا استشهدت نطقت أما علمت أن النار للعصاة خلقت إنها لتحرق كل ما يلقى فيها فيصعب على خزنتها كثرة تلاقيها التوبة تحجب عنها والدمعة تطفيها قال صلى الله عليه وسلم: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه لا طعام له غيره أسفًا لأهل النار قد هلكوا وشقوا لا يقدر الواصف أن يصف ما قد لقوا كلما عطشوا جيء بالحميم فسقوا وهذا جزاؤهم إذ خرجوا عن الطاعة وفسقوا قطعوا والله بالعذاب ومزقوا وأفرد كل منهم عن فريقه وفرقوا فلو رأيتهم قد كلبوا في السلاسل وأوثقوا واشتد زفيرهم وتضرع أسيرهم وقلقوا وتمنوا أن لم يكونوا وتأسفوا كيف خلقوا وندموا إذا أعرضوا عن النصح وقد صدقوا فلا اعتذارهم يسمع ولا بكاؤهم ينفع ولا أعتقوا. .المجلس التاسع في ذكر إسحاق وقصة الذبح: الحمد لله الذي أنشأ وبنا وخلق الماء والثرى وأبدع كل شيء ذرا لا يغيب عن بصره دبيب النمل في الليل إذا سرى ولا يعزب عن علمه ما عن وما طرا اصطفى آدم ثم عفا عما جرى وابتعث نوحًا فبنى الفلك وسرى ونجى الخليل من النار فصار حرها ثرى ثم ابتلاه بذبح الولد فأدهش بصبره الورى {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} أحمده ما قطع نهار بسير وليل بسرى وأصلي على رسوله محمد المبعوث في أم القرى وعلى أبي بكر صاحبه في الدار والغار بلا مرا وعلى عمر المحدث عن سره فهو بنور الله يرى وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديثا يفترى وعلى علي بحر العلوم وأسد الشرى وعلى عمه العباس الرفيع القدر الشامخ الذرى قال الله: {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} المراد بالسعي مشيه معه وتصرفه وكان حينئذ ابن ثلاث عشرة سنة وهذا الزمان أحب ما يكون الولد إلى والده لأنه وقت يستغنى فيه عن مشقة الحضانة والتربية ولم يبلغ به وقت الأذى والعقوق فكانت البلوى أشد وللعلماء في الذبيح قولان أحدهما أنه إسماعيل قاله ابن عمر وعبد الله بن سلام والحسن البصري وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ويوسف بن مهران والقرظي في آخرين والثاني أنه إسحاق أخبرنا علي بن عبيد الله وأحمد بن الحسين وعبد الرحمن بن محمد قالوا أنبأنا عبد الصمد المأمون أنبأنا علي بن عمر الحربي حدثنا أحمد بن كعب حدثنا عبد الله ابن عبد المؤمن حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن المبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذبيح إسحاق وهذا قول عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبي موسى وأبي هريرة وأنس وكعب ووهب ومسروق في خلق كثير وهو الصحيح أخبرنا الحسين أنبأنا أبو طالب بن غيلان أنبأنا أبو بكر الشافعي حدثنا الهيثم ابن خلف حدثنا أبو كريت حدثنا زيد بن الحباب عن الحسن بن دينار عن علي ابن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل داود عليه السلام ربه فقال إلهي أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعًا فقال لست هناك إن إبراهيم لم يعدل بي شيئًا إلا اختارني عليه وإن إسحاق جاد لي بنفسه وإن يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف وأما سبب أمره بذبحه فروى السدى عن أشياخه أن جبريل لما بشر سارة بإسحاق قالت ما آية ذلك قال فأخذ عودًا يابسًا في يده فلواه بين أصابعه فاهتز خضرا فقال إبراهيم هو لله إذا ذبيح فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم.فقيل له أوف بنذرك فقال لإسحاق انطلق نقرب قربانًا إلى الله وأخذ سكينًا وحبلًا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب بين الجبال فقال له الغلام يا أبت أين قربانك قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فقال إسحاق اشدد رباطي كي لا أضطرب واكفف ثيابي لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن وأٍ سرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي وإذا أتيت سارة فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي وربطه وجر السكين على حلقه فلم تذبح السكين وقال غيره انقلبت فنودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فإذا بكبش فأخذه وخلى عن ابنه وأكب عليه يقبله ويقول يا بني اليوم وهبت لي ورجع إلى سارة فأخبرها الخبر فقالت أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني قال شعيب الجبائي لما علمت بذلك ماتت في اليوم الثالث وإنما قال فانظر ماذا ترى أي ما عندك من الرأي ولم يقل ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه قال يا أبت افعل ما تؤمر أي ما أمرت فلما أسلما أي استسلما لأمر الله سبحانه ورضيا وفي جواب هذا قولان أحدهما أن جوابه ناديناه والواو زائدة قاله الفراء والثاني أنه محذوف تقديره سعد وأثيب قوله تعالى: {وتله للجبين} قال ابن قتيبة صرعه على جبينه فصار على أحد جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما {وناديناه} قال المفسرون نودي من الجبل {يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} وفيه قولان أحدهما قد عملت بما أمرت به وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه فطاوعه الابن بالتمكين من الذبح إلا أن الله صرف ذلك كما شاء فصار كأنه ذبح وإن لم يقع الذبح والثاني أنه رأى في المنام معالجة الذبح.ولم ير إراقة الدم فلما فعل في اليقظة ما رأى في المنام قيل له قد صدقت الرؤيا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري قد صدقت الرؤيا بتخفيف الدال {إنا كذلك} أي كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده كذلك {نجزي المحسنين} {إن هذا لهو البلاء المبين} وفيه قولان أحدهما النعمة البينة وهو العفو عن الذبح والثاني الاختبار العظيم وهو امتحانه بالذبح {وفديناه بذبح} وهو بكسر الذال اسم ما ذبح وبفتحها مصدر ذبحت والمعنى خلصناه من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال أحدها أنه كان كبشًا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عامًا قاله ابن عباس في رواية مجاهد وقال في رواية سعيد بن جبير هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه كان في الجنة حتى فدي به والثاني أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين رواه الطفيل عن ابن عباس والثالث أنه كان ذكرًا من الأروى أهبط عليه من ثبير قاله الحسن وفي قوله: {عظيم} قولان أحدهما لأنه قد رعى في الجنة قاله ابن عباس والثاني أنه متقبل قاله مجاهد قال وهب بن منبه كان ذلك بإيلياء من أرض الشام سبحان المفاوت بين الخلق يقال للخليل اذبح ولدك فيأخذ المدية ويضجعه للذبح ويقال لقوم موسى {اذبحوا بقرة} فذبحوها وما كادوا يفعلون ويخرج أبو بكر من جميع ماله ويبخل ثعلبة بالزكاة ويجود حاتم بقوته ويبخل بضوء ناره الحُباحِب.وكذلك فاوت بين الفهوم فسحبان أنطق متكلم وباقل أقبح من أخرس وفاوت بين الأماكن فزرود تشكو العطش والبطائح تصيح الغرق قال علماء السير لم يمت إبراهيم حتى نبئ إسحاق وبعث إلى أرض الشام وكان إبراهيم قد زوج إسحاق أروقة بنت بتاويل فولدت له العيص ويعقوب وهو ابن ستين سنة فأما العيص فتزوج بنت عمه إسماعيل فولدت له الروم فكل بني الأصفر من ولده وكثر أولاده حتى غلبوا الكنعانيين بالشام وصاروا إلى البحر والسواحل وصار الملوك من ولده وهم اليونانية وأما يعقوب فتزوج ليا فولدت أكثر أولاده ثم تزوج راحيل فولدت له يوسف وبنيامين وعاش إسحاق مائة وستين سنة وتوفي بفلسطين ودفن عند أبيه إبراهيم إخواني تأملوا عواقب الصبر وتخايلوا في البلاء نور الأجر فمن تصور زوال المحن وبقاء الثناء هان الابتلاء عليه ومن تفكر في زوال اللذات وبقاء العار هان تركها عنده وما يلاحظ العواقب إلا بصر ثاقب..الكلام على البسملة: إخواني الأيام لكم مطايا فأين العدة قبل المنايا أين الأنفة من دار الأذايا أين العزائم أترضون الدنايا إن بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا وسرية الموت لا تشبه السرايا وقضية الأيام لا كالقضايا راعي السلامة يقتل الرعايا رامي التلف يصمي الرمايا ملك الموت لا يقبل الهدايا يا مستورين ستظهر الخبايا استغفروا الله خجلًا من العثرات ثم اسكبوا حزنًا لها العبرات عجبًا لمؤثر الفانية على الباقية ولبائع البحر الخضم بساقية ولمختار دار الكدر على الصافية ولمقدم حب الأمراض على العافية أيها المستوطن بيت غروره تأهب لإزعاجك أيها المسرور بقصوره تهيأ لإخراجك خذ عدتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك وأزواجك ما الدنيا دار مقامك بل حلبة إدلاجك. أتأمن بطش ذي البطش وتبارزه عالمًا برؤيته ولم تخش يا من إذا وزن طفف وإذا باع غش أنسيت النزول في بيداء الدبيب والوحش أنسيت الحلول في لحد خشن الفرش يا مغترًا بزخرف الهوى قد ألهاه النقش إذا جنيت على نفسك فعلى من الأرش يا من إذا جاء الفرض التوى وإذا حان اللهو هش يا من لا يصبر للقضاء ولو على خدش كن مستيقظًا فإنك بعين ذي العرش. يا حزينًا على فراق موتاه كئيبًا لمطلوب ما واتاه كأنه بالموت قد أتاه فألحقه ما أباه أباه ووافاه ما أطيق فاه فما فاه. قدم على محمد بن واسع ابن عم له فقال له من أين أقبلت فقال من طلب الدنيا فقال هل أدركتها قال لا قال واعجبا أنت تطلب شيئًا لم تدركه فكيف تدرك شيئًا لم تطلبه.يا هذا عليك بالجد والإجتهاد وخل هذا الكسل والرقاد فطريقك لابد لها من زاد.
|